كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الرابع: أن لات هذه ليسَتْ هي لا مُزادًا فيها تاءُ التأنيث، وإنما هي: ليس فأُبْدلت السينُ تاءً، وقد أُبْدِلت منها في مواضعَ قالوا: النات يريدون: الناس. ومنه سِتٌّ وأصله سِدْس. قال:
يا قاتلَ اللَّهُ بني السَّعْلاتِ

عمرَو بنَ يَرْبُوعٍ شرارَ الناتِ

لَيْسوا بأخيارٍ ولا أَكْياتِ

وقُرِئ شاذًا {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النات} إلى آخره. يريد: شرارَ الناسِ ولا أكياسِ، فأبْدل. ولَمَّا أبدل السينَ تاءً خاف من التباسها بحرفِ التمني فقلب الياءَ ألفًا فبقيَتْ لات وهو من الاكتفاء بحرف العلةِ؛ لأنَّ حرف العلة لا يُبْدل ألفًا إلاَّ بشروطٍ منها: أن يتحرَّكَ، وأَنْ ينفتحَ ما قبله، فيكون {حينَ مناص} خبرَها، والاسمُ محذوفٌ على ما تقدَّم، والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيةِ.
وقرأ عيسى بن عمر {وَّلاَتِ حِينِ مَنَاصٍ} بكسر التاء وجرِّ {حين} وهي قراءةٌ مُشْكلةٌ جدًّا. زعم الفراء أنَّ لات يُجَرُّ بها، وأنشد:
ولَتَنْدَمَنَّ ولاتَ ساعةِ مَنْدَمِ

وأنشد غيرُه:
طلبوا صلحَنا ولاتَ أوانٍ

البيت. وقال الزمخشري: ومثلُه قول أبي زبيد الطائي: طلبوا صلحنا. البيت. قال: فإنْ قلتَ ما وجهُ الجرِّ في أوان؟ قلت: شُبِّه ب إذ في قوله: وأنتَ إذٍ صحيحُ، في أنه زمانٌ قُطِع منه المضافُ إليه وعُوِّض منه التنوينُ لأن الأصلَ: ولات أوان صلح. فإن قلتَ: فما تقولُ في {حينَ مناصٍ} والمضافُ إليه قائمٌ؟ قلت: نَزَّلَ قَطْعَ المضافِ إليه مِنْ {مناص}- لأنَّ أصلَه: حين مناصِهم- منزلةَ قَطْعِه مِنْ حين لاتحاد المضاف والمضاف إليه، وجَعَل تنوينَه عوضًا من المضافِ المحذوفِ، ثم بَنى الحين لكونِه مضافًا إلى غير متمكن. انتهى.
وخرَّجه الشيخُ على إضمار مِنْ والأصل: ولات مِنْ حين مناص، فحُذِفت مِنْ وبقي عملُها نحو قولِهم: على كم جِذْعٍ بَنَيْتَ بيتك؟ أي: مِنْ جذع في أصحِّ القولَيْن. وفيه قولٌ آخر: أنَّ الجرَّ بالإِضافة، ومثله قوله:
ألا رَجُلٍ جزاه اللَّهُ خَيْرًا

أنشدوه بجرِّ رَجُل أي: ألا مِنْ رجل.
قلت: وقد يتأيَّد بظهورِها في قوله:
وقالَ ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ

قال: ويكونُ موضعُ مِنْ حين مناصٍ رفعًا على أنه اسم لات بمعنى ليس، كما تقولُ: ليس من رجلٍ قائمًا، والخبرُ محذوفٌ، وعلى هذا قولُ سيبويه. وعلى أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ على قولِ الأخفشِ. وخَرَّج الأخفشُ ولاتَ أَوانٍ على حَذْفِ مضافٍ، يعني: أنه حُذِفَ المضافُ وبقي المضافُ إليه مجرورًا على ما كان. والأصلُ: ولات حينُ أوانٍ.
وقد رَدَّ هذا الوجهَ مكيٌّ: بأنه كان ينبغي أَنْ يقومَ المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب فيُرفعَ. قلت: قد جاء بقاءُ المضافِ إليه على جَرِّه. وهو قسمان: قليلٌ وكثيرٌ. فالكثيرُ أَنْ يكونَ في اللفظ مِثْلُ المضاف نحو:
أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرًَا ** ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا

أي: وكلَّ نارٍ. والقليلُ أَنْ لا يكونَ كقراءة مَنْ قرأ {والله يُرِيدُ الآخرة} بجر {الآخرةِ} فليكنْ هذا منه. على أنَّ المبردَ رواه بالرفعِ على إقامتِه مُقامَ المضافِ.
وقال الزجَّاج: الأصل: ولات أواننا، فحُذِفَ المضافُ إليه فوجَبَ أَنْ لا يُعْرَبَ، وكسرُه لالتقاءِ الساكنين. قال الشيخ: هذا هو الوجهُ الذي قرَّره الزمخشريُّ، أَخَذَه من أبي إسحاقَ قلت: يعني الوجهَ الأولَ، وهو قولُه: ولاتَ أوان صلحٍ.
هذا ما يتعلَّقُ بجرِّ حين.
وأمَّا كسرُ تاءِ لات فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين كجَيْرِ، إلاَّ أنه لا تُعْرف تاءُ تأنيثٍ إلاَّ مفتوحةً.
وقرأ عيسى أيضًا بكسرِ التاءِ فقط، ونصبِ حين كالعامَّةِ. وقرأ أيضًا {ولات حينُ} بالرفعِ، {مناصَ} بالفتح. وهذه قراءةٌ مشكلةٌ جدًّا لا تَبْعُدُ عن الغلطِ مِنْ راويها عن عيسى فإنه بمكانةٍ مِنْ العلمِ المانعِ له من مثلِ هذه القراءةِ. وقد خَرَّجها أبو الفضلِ الرازيُّ في لوامحه على التقديمِ والتأخيرِ، وأنَّ حين أُجْرِي مُجْرى قبل وبعد في بنائِه على الضمِّ عند قَطْعِه عن الإِضافة بجامع ما بينه وبينهما مِن الظرفيةِ الزمانيةِ. ومَناصَ اسمُها مبنيٌّ على الفتح فُصِل بينَه وبينها بحين المقطوعِ عن الإِضافة.
والأصلُ: ولاتَ مناص حين كذا، ثم حُذِفَ المضافُ إليه حين، وبُني على الضم وقَدَّم فاصلًا بين لات واسمِها. قال: وقد يجوزُ أَنْ يكونَ لذلك معنًى لا أَعْرِفُه. وقد رُوِي في تاءِ لاتَ الفتحُ والكسرُ والضمُّ.
وقوله: {فنادَوْا} لا مفعولَ له؛ لأنَّ القصدَ: فَعَلوا النداءَ، مِنْ غيرِ قصدِ منادى.
وقال الكلبيُّ: كانوا إذا قاتلوا فاضْطُرُّوا نادى بعضُهم لبعضٍ: مناص أي: عليكم بالفرارِ، فلَمَّا أتاهم العذابُ قالوا: مناص. فقال اللَّهُ تعالى لهم: {ولات حينَ مناصٍ}. قال القشيريُّ: فعلى هذا يكونُ التقديرُ: فنادَوْا مناص، فحُذِف لدلالةِ ما بعده عليه. قلت: فيكون قد حَذَفَ المنادى وهو بعضًا وما ينادُوْن به، وهو مناص، أي: نادَوْا بعضَهم بهذا اللفظِ. وقال الجرجانيُّ: أي: فنادَوْا حين لا مناص أي: ساعةَ لا مَنْجَى ولا فَوْتَ، فلمَّا قَدَّم لا وأَخَّر حين اقتضى ذلك الواوَ كما تقتضي الحالُ إذا جُعِل ابتداءً وخبرًا مثلَ ما تقول: جاء زيدٌ راكبًا ثم تقول: جاء وهو راكبٌ. ف {حين} ظرفٌ لقولِه {فنادَوْا}. قال الشيخ: وكونُ أصلِ هذه الجملةِ فنادَوْا: حين لا مناص، وأنَّ {حين} ظرفٌ لقولِه: {فنادَوْا} دعوى أعجميةٌ في نَظْمِ القرآن، والمعنى على نظمِه في غايةِ الوضوح. قلت: الجرجانيُّ لا يَعْني أنَّ حين ظرفٌ ل نادَوْا في التركيبِ الذي عليه القرآن الآن، إنما يعني بذلك في أصلِ المعنى والتركيب، كما شَبَّه ذلك بقولِك جاء زيدٌ راكبًا ثم ب: جاء زيدٌ وهو راكبٌ فراكبًا في التركيبِ الأولِ حالٌ، وفي الثاني خبرُ مبتدأ، كذلك حين كان في الأصل ظرفًا للنداء، ثم صار خبرَ لات أو اسمَها على حسبِ الخلافِ المتقدِّم.
والمناصُ: مَفْعَل مِنْ ناص يَنُوص أي: هَرَبَ فهو مصدرٌ يقال: نَاصه يَنُوصه إذا فاته فهذا متعدٍّ، وناصَ يَنُوص أي: تأخَّر. ومنه ناص عن قِرْنِه أي: تأخَّر عنه جُبْنًا. قاله الفراء، وأنشد قولَ امرئ القيس:
أمِنْ ذِكْرِ سَلْمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوْصُ ** فتَقْصُرُ عنها حِقْبةً وتَبُوْصُ

قال أبو جعفر النحاس: ناصَ يَنُوص أي: تقدَّم فيكون من الأضداد. واستناص طلب المَناص. قال حارثة بن زيد:
غَمْرُ الجِراءِ إذا قَصَرْتُ عِنانَه ** بيديْ اسْتَناصَ ورام جَرْيَ المِسْحَلِ

ويقال: ناص إلى كذا ينوص نَوْصًا أي: التجأ إليه.
{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)}.
قوله: {أن جاءكم} أي: مِنْ أَنْ، وفيها الخلافُ المشهورُ.
وقوله: {وقال الكافرون} من بابِ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضعَ المضمر شهادةً عليهم بهذا الوَصْفِ القبيح.
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)}.
قوله: {عُجَابٌ} مبالغةً في عجيب كقولهم: رجل طُوال وأَمْرٌ سُراع هما أبلغُ مِنْ: طويل وسريع. وعلي والسلمي وعيسى وابن مقسم {عُجَّاب} بتشديد الجيم، وهي أبلغُ مِمَّا قبلَها فهي مثلُ رجل كريم وكُرام بالتخفيف، وكُرَّام بالتشديد. قال مقاتل: وعُجاب- يعني بالتخفيفِ- لغةُ أزد شنوءة. وهذه القراءةُ أعني بالتشديدِ كقوله: {وَمَكَرُواْ مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22] هو أبلغُ مِنْ كُبار، وكُبار أبلغُ مِنْ كبير.
وقوله: {أجَعَلَ} أي: أصيَّرها إلهًا واحدًا في قولِه وزَعْمه.
{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)}.
قوله: {أَنِ امشوا} يجوزُ أَنْ تكونَ أنْ مصدريةً أي: انطلقوا بقولِهم: أن امْشُوا وأَنْ تكونَ مفسِّرةً: إمَّا ل انطلق لأنه ضُمِّنَ معنى القول. قال الزمخشريُّ: لأنَّ المنطلقين عن مجلس التقاوُلِ لابد لهم أَنْ يتكلموا ويتفاوضوا فيما جَرَى لهم. انتهى. وقيل: بل هي مفسِّرةٌ لجملةٍ محذوفةٍ في محلِّ حالٍ تقديرُه: وانطلقوا يتحاورون أن امْشُوا. ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً معمولةً لهذا المقدرِ. وقيل: الانطلاقُ هنا الاندفاعُ في القولِ والكلامِ نحو: انطلق لسانُه، فأَنْ مفسرةٌ له من غير تضمينٍ ولا حَذْفٍ. والمَشْيُ: الظاهر أنه هو المتعارَفُ. وقيل: بل هو دعاءٌ بكثرة الماشيةِ، وهذا فاسِدٌ لفظًا ومعنى. أمَّا اللفظُ فلأنَّه إنما يقال من هذا المعنى أَمْشَى الرجلُ إذا كَثُرَتْ ماشيَتُه بالألفِ أي: صار ذا ماشيةٍ، فكان ينبغي على هذا أَنْ يقرأَ أَمْشُوا بقطع الهمزةِ مفتوحةً. وأمَّا المعنى فليس مرادًا البتةَ، وأيُّ معنى على ذلك!!
إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ ذكر وجهًا صحيحًا من حيث الصناعةُ وأقربُ معنًى ممَّا تقدَّم، فقال: ويجوزُ أنَّهم قالوا: امشُوا أي: اكثروا واجتمعوا، مِنْ مَشَتِ المرأةُ: إذا كَثُرَتْ وِلادتها، ومنه الماشيةُ للتفاؤل. انتهى. وإذا وُقِفَ على أنْ وابْتُدِئ بما بعدَها فليُبْتَدَأْ بكسرِ الهمزةِ لا بضمِّها لأنَّ الثالثَ مكسورٌ تقديرًا إذ الأصل: امْشِيُوا ثم أُعِلَّ بالحَذْفِ. وهذا كما يُبْتدأ بضم الهمزةِ في قولك اغْزِي يا امرأةُ. وإنْ كانت الزايُ مكسورةً لأنَّها مضمومةٌ في الأصل إذ الأصل: اغْزُوِي كاخْرُجي فأُعِلَّ بالحذفِ.
{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}.
قوله: {فِى الملة} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب {سَمِعْنا} أي: لم نسمَعْ في المِلَّةِ الآخرة بهذا الذي جئتَ به. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ هذا أي: ما سمعنا بهذا كائنًا في المِلَّةِ الآخرةِ. أي: لم نسمَعْ من الكُهَّانِ ولا مِنْ أهلِ الكتبِ أنه يَحْدُثُ توحيدُ اللَّهِ في الملَّةِ الآخرة، وهذا مِنْ فَرْط كَذِبِهم.
{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)}.
قوله: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر} قد تقدَّم حكمُ هاتَيْن الهمزتين في أوائل آل عمران، وأنَّ الواردَ منه في القرآن ثلاثةُ أماكنَ. والإِضراباتُ في هذه الآيةِ واضحةٌ وأم منقطعةٌ.
{أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)}.
قوله: {فَلْيَرْتَقُواْ} قال أبو البقاء: هذا كلامٌ محمولٌ على المعنى أي: إنْ زعموا ذلك فَلْيَرْتَقُوا، فجعلها جوابًا لشرطٍ مقدرٍ، وكثيرًا ما يَفْعَلُ الزمخشريُّ ذلك.
{جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)}.
قوله: {جُندٌ} يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: وهو الظاهرُ أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هم جُنْدٌ. وما فيها وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ. والثاني: أنَّها صفةٌ ل {جُنْدٌ} على سبيلِ التعظيم للهُزْءِ بهم أن للتحقير، فإنَّ ما الصفة تُستعمل لهذين المعنيين. ومثلُه قولُ امرىءِ القيس:
وحَديثٌ ما على قِصَرِهْ

وقد تقدَّم هذا في أوائلِ البقرة. و{هنالك} يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ خبر الجند وما مزيدةٌ و{مَهْزُوم} نعتٌ ل {جُنْد} ذكره مكيٌّ. الثاني: أَنْ يكون صفةً ل {جند}. والثالث: أَنْ يكونَ منصوبًا بمهزوم. ومَهْزوم يجوزُ فيه أيضًا وجهان، أحدهما: أنه خبرٌ ثانٍ لذلك المبتدأ المقدرِ. والثاني: أنه صفةٌ ل {جُنْد} إلاَّ أنَّ الأحسنَ على هذا الوجهِ أَنْ لا يُجْعَلَ {هنالك} صفةً بل متعلقًا به، لئلا يَلْزَمَ تقدُّم الوصفِ غيرِ الصريح على الصَّريح. و{هنالك} مشارٌ به إلى موضعِ التقاوُلِ والمجاوزةِ بالكلمات السابقة وهو مكةُ أي: سيُهزمون بمكةَ وهو إخبارٌ بالمغيَّبِ. وقيل: مُشارٌ به إلى نُصرةِ الأصنامِ. وقيل: إلى حَفْرِ الخندقِ يعني: إلى مكانِ ذلك. الثاني من الوجهين الأولين: أَنْ يكونَ {جندٌ} مبتدأ وما مزيدةٌ. و{هنالك} نعتٌ و{مهزوم} خبرُه قاله أبو البقاء. قال الشيخ: وفيه بُعْدٌ لتفلُّتِه عن الكلامِ الذي قبلَه. قلت: وهذا الوجهُ المنقولُ عن أبي البقاءِ سبقه إليه مكي.
قوله: {من الأحزاب} يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل {جُند} وأنْ يكونَ صفةً ل {مهزومٌ}. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ متعلقًا به. وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ المرادَ بالأحزاب هم المهزومون.
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)}.
قوله: {ذُو الأوتاد} هذه استعارةٌ بليغةٌ: حيث شبَّه المُلْكَ ببيت الشَّعْر، وبيتُ الشَّعْرِ لا يَثبتُ إلاَّ بالأوتادِ والأطناب، كما قال الأفوه:
والبيتُ لا يُبْتَنى إلاَّ على عمدٍ ** ولا عمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ

فاسْتعير لثباتِ العزِّ والمُلْكِ واستقرار الأمر، كقول الأسود:
في ظلِّ مُلْكٍ ثابتِ الأَوْتاد

والأَوْتادُ: جمعُ وَتِد. وفيه لغاتٌ: وَتِدٌ بفتح الواو وكسرِ التاءِ وهي الفصحى، ووَتَد بفتحتين، ووَدّ بإدغام التاء في الدال قال:
تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ ** وتُوارِيْه إذا ما تَشْتَكِرْ

ووَتَّ بإبدالِ الدالِ تاءً ثم إدغام التاء فيها. وهذا شاذٌّ لأنَّ الأصلَ إبدالُ الأولِ للثاني لا العكسُ. وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قولِه تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} [آل عمران: 185]. ويُقال: وَتِدٌ واتِدٌ أي: قويٌّ ثابت، وهو مِثْلُ مجازِ قولهم: شُغْل شاغِلٌ. وأنشد الأصمعي:
ألاقَتْ على الماءِ جُذَيْلًا واتِدًا ** ولم يَكُنْ يُخْلِفُها المَواعدا

وقيل: الأوتادُ هنا حقيقةٌ لا استعارةٌ. ففي التفسير: أنه كان له أوتادٌ يَرْبط عليها الناسَ يُعَذِّبُهم بذلك. وتقدم الخلافُ في الأَيْكة في سورة الشعراء.